قياس الذكاء
في المدارس الابتدائية بالقاهرة
نشر : وزارة المعارف المصرية
سنة النشر : 1937
و إذا نظرنا الى الناحية التي تهمنا بصفة خاصة ، وهى ناحية التعليم ، وجدنا أن هذه المقاييس تطبق الآن على مئات الألوف من التلاميذ في أمريكا وأوربا كل عام، وتراعى نتائجها في اختيار مناهج التعليم وطرقه لهم، وفى نقلهم من فرقة لى أخرى وتقسيمهم في الفرقة الواحدة الى فصول متجانسة ، وفى توجيههم الى الاتجاهات التي تلائمهم من حيث نوع الدراسة والمهنة المستقبلة .
و يرجع أكثر السبب في سرعة انتشار هذه المقاييس الى أنها تتصل بنزعتين من أهم النزعات الغالبة على التربية في القرن الحالي ، وهما : العناية بأمر التلميذ الفرد ، والاعتماد على الطريقة التجريبية في حل مشاكل التربية والتعليم .
فاختلاف الأفراد في الصفات العقلية والوجدانية أمر معروف من قديم الزمان، ولكن المدارس لم تلتفت الى أهمية ذلك في تربية الأطفال إلا منذ وقت قريب، إذ كانت نظم التعلم المألوفة تعمل على صب جميع التلاميذ في قالب واحد ، مهما اختلفت طبائعهم، ومهما تكن بينهم من فروق في الاستعدادات والمواهب. ولا نزال إلى الآن نحشد هؤلاء التلاميذ المتباينين في فصل واحد ، ونضع لهم منهجا واحدا ، نطالبهم بدراسته في زمن واحد ، ثم نعجب بعد ذلك لأن بعضهم يعجزون عن القيام بما نتطلبه منهم ، وننسب عجزهم هذا الى الكسل أو الإهمال ، وجزاء ذلك عندنا العقاب والضرب والاهانة . ولا يخطر ببالنا أن السبب الحقيق في عجز الكثيرين منهم هو أننا تكلفهم ما لا طاقة لهم به ، ونطالبهم بدروس لا تتفق مع استعداداتهم ، ولا تحتملها مداركهم ، وأننا بذلك نجنى عليهم ونلحق بهما أشد الأذى .
إن التلميذ اذا تكرر فشله فى الدراسة ورسوبه في الامتحان ، ثبطت همته ، وتملكه اليأس وهو بعد في زهرة شبابه ، ونفر من العلم والدراسة ، وأخذ يوجه ما فى نفسه من طاقة الى وجوه لا نرضاها . وليست جنايدنا قاصرة على الأغبياء من التلاميذ، بل نحن نفشل في تعليم الأذكياء أيضا ، لأننا لا نهيء لهم أسباب الانتفاع بمواهبهم الى أقصى حد .
فهذا النوع من التلاميذ يصرف أكثر وقته المدرسي في تلقي دروس يشعر أنها دون قوته ، وسماع شروح هو ليس فى حاجة اليها ، وتكرار عمليات سبق له أن فهمها وأتقنها . وليس في ذلك شيء من الغذاء اللازم لتنمية قواه العقلية ، بل ليس فيه ما يصح أن يعتبره تحديا لذكائه ، حتى يحمله على بذل مجهود صادق في الدراسة . ونتيجة ذلك أنه يتعود الكسل ، وتمتلئ نفسه بالغرور ، وتتحول طاقته الحيوية مثل أخيه الغبي الى أنواع من السلوك غير مرغوب فيها .
هذا هو تعليم الماضي، وهو تعليم يتنافى مع طبيعة الأشياء ، ويؤدى بكثير من التلاميذ الى أن يصبحوا مشاكل دراسية وخلقية . أما تعليم المستقبل فانه يشترط فى خططه ومناهجه وطرقه أن تكون مرنة متنوعة ، تتبع استعداد كل تلميذ وشخصيته . فلم يخلق التلاميذ للمناهج، بل المناهج هي التي توضع للتلاميذ ؛ وواجب المربى أن يدرس كل تلميذ على حدة كى يقف على قواه ، ومواهبه ، وميول نفسه وبيئته المنزلية ... الخ ؛ وبذلك يتسنى له أن يختار للتلميذ من وسائل التربية أنجعها وأكثرها ملاءمة لظروفه . والمقاييس العقلية ، وفى مقدمتها مقاييس الذكاء ، من أهم الوسائل التي نستعين بها على فهم عقلية التلميذ
وأما عن النزعة الثانية ، فقد كان البحث في مسائل التربية إلى أواخر القرن الماضي قائما على آراء شخصية ، مبنية على خبرة ومشاهدات ناقصة غير محدودة . فكنت ترى فيلسوفا ينادى بأن العلوم الطبيعية هي أصلح المواد لتثقيف العقل، ويعرز ذلك بحجج كثيرة يؤكدها ويثق بصحتها، وآخر يقول بأن دراسة الآداب والتاريخ لا تعدلها دراسة أخرى من حيث قيمتها لتربية العقل والخلق معا ، و يعزز ذلك بحجج أخرى كثيرة ، يؤكدها ويثق ، هو الآخر ، بصحتها . وكنت ترى حربا طاحنة بين من يقولون بأن تمرين التلميذ على التفكير في قواعد النحو أو في نظريات الهندسة يؤهله للتفكير الصحيح فى سائر نواحى الحياة الفكرية والعملية ، ومن يقولون بأن آثار التمرين لا تتعدى دائرة المواد التى تمرن التلميذ عليها ؛ وكل فريق لديه ذخيرة لا تنفد من الأسباب النظرية والبراهين الفلسفية . وكنت ترى هذا المعلم يفضّل طريقة خاصة في تعليم اللغة أو الحساب أو الخط ، وذاك يفضل عكسها على خط مستقيم ، وكل منهما يجد لرأيه مبررا من خبرته الشخصية ، أو من قاعدة ثانوية من قواعد علم النفس النظري . ولم يكن
من المستطاع حسم الخلاف فى أمثال هذه المناقشات، لأنه لم يكن ثمة ضابط علمي يكون له القول الفصل في ترجيح ناحية على أخرى . لذلك لما أخذ علماء النفس في القرن الماضى يستعملون في أبحاثهم طرق القياس والتجريب المستعملة في العلوم الطبيعية ، لم يكن من الغريب أن تسرى العدوى الى المربين ، فبدءوا يضعون آراءهم ونظرياتهم القديمة ، وأساليبهم المتوارثة عن الأجيال السالفة ، على محك التجريب العلمي ليتبينوا ما فيها من عناصر الصواب والخطأ
ومما زاد في الاهتمام بالطريقة التجريبية أن العصر الذي نعيش فيه عصر انقلاب وتجديد في فلسفة التربية ونظمها ، تضافرت على إنتاجهما عوامل عدة ، أظهرت فساد المثل العليا القديمة ، فقام المفكرون والمصلحون ينادون بأساليب مدرسية مبتكرة ، يرون فيها العلاج الشافي لما في النظم الحالية من مساوئ . وللتحقق من صواب هذه الأساليب الجديدة أو خطئها ، أنشئت المدارس التجريبية لتجربتها والحكم عليها بما يظهر من نتائجها العملية . وقد انتشرت تلك المدارس فى بلاد عدة ، فاشتدت معها الحاجة الى المقاييس العقلية والدراسية المضبوطة ، لأن التجريب العلمي أساسه القياس الدقيق ، الذى يبين حالة التلاميذ عند البدء في التجربة ، وحالتهم عند ختامها
تفاصيل الكتاب
تأليف : اسماعيل محمود القبانينشر : وزارة المعارف المصرية
سنة النشر : 1937
مقدمة الكتاب
في سنة 1905 نشر العالم الفرنسي الفريد بينيه (A. Binet) ومساعده الدكتور سيمون (Simon) مقياسهما الأول للذكاء ، فكان ذلك فاتحة تطور جديد في علم النفس ، نما وأثمر بسرعة نادرة . فانه لم يكد يمضى على ذلك ربع قرن حتى أصبحت المقاييس العقلية تعد بالعشرات ، وشاع استعمالها في كثير من نواحى الحياة العملية ، وأحدثت انقلابا في نظم التعليم والصناعة وفى التشريع وطرق معاملة المجرمين .و إذا نظرنا الى الناحية التي تهمنا بصفة خاصة ، وهى ناحية التعليم ، وجدنا أن هذه المقاييس تطبق الآن على مئات الألوف من التلاميذ في أمريكا وأوربا كل عام، وتراعى نتائجها في اختيار مناهج التعليم وطرقه لهم، وفى نقلهم من فرقة لى أخرى وتقسيمهم في الفرقة الواحدة الى فصول متجانسة ، وفى توجيههم الى الاتجاهات التي تلائمهم من حيث نوع الدراسة والمهنة المستقبلة .
و يرجع أكثر السبب في سرعة انتشار هذه المقاييس الى أنها تتصل بنزعتين من أهم النزعات الغالبة على التربية في القرن الحالي ، وهما : العناية بأمر التلميذ الفرد ، والاعتماد على الطريقة التجريبية في حل مشاكل التربية والتعليم .
فاختلاف الأفراد في الصفات العقلية والوجدانية أمر معروف من قديم الزمان، ولكن المدارس لم تلتفت الى أهمية ذلك في تربية الأطفال إلا منذ وقت قريب، إذ كانت نظم التعلم المألوفة تعمل على صب جميع التلاميذ في قالب واحد ، مهما اختلفت طبائعهم، ومهما تكن بينهم من فروق في الاستعدادات والمواهب. ولا نزال إلى الآن نحشد هؤلاء التلاميذ المتباينين في فصل واحد ، ونضع لهم منهجا واحدا ، نطالبهم بدراسته في زمن واحد ، ثم نعجب بعد ذلك لأن بعضهم يعجزون عن القيام بما نتطلبه منهم ، وننسب عجزهم هذا الى الكسل أو الإهمال ، وجزاء ذلك عندنا العقاب والضرب والاهانة . ولا يخطر ببالنا أن السبب الحقيق في عجز الكثيرين منهم هو أننا تكلفهم ما لا طاقة لهم به ، ونطالبهم بدروس لا تتفق مع استعداداتهم ، ولا تحتملها مداركهم ، وأننا بذلك نجنى عليهم ونلحق بهما أشد الأذى .
إن التلميذ اذا تكرر فشله فى الدراسة ورسوبه في الامتحان ، ثبطت همته ، وتملكه اليأس وهو بعد في زهرة شبابه ، ونفر من العلم والدراسة ، وأخذ يوجه ما فى نفسه من طاقة الى وجوه لا نرضاها . وليست جنايدنا قاصرة على الأغبياء من التلاميذ، بل نحن نفشل في تعليم الأذكياء أيضا ، لأننا لا نهيء لهم أسباب الانتفاع بمواهبهم الى أقصى حد .
فهذا النوع من التلاميذ يصرف أكثر وقته المدرسي في تلقي دروس يشعر أنها دون قوته ، وسماع شروح هو ليس فى حاجة اليها ، وتكرار عمليات سبق له أن فهمها وأتقنها . وليس في ذلك شيء من الغذاء اللازم لتنمية قواه العقلية ، بل ليس فيه ما يصح أن يعتبره تحديا لذكائه ، حتى يحمله على بذل مجهود صادق في الدراسة . ونتيجة ذلك أنه يتعود الكسل ، وتمتلئ نفسه بالغرور ، وتتحول طاقته الحيوية مثل أخيه الغبي الى أنواع من السلوك غير مرغوب فيها .
هذا هو تعليم الماضي، وهو تعليم يتنافى مع طبيعة الأشياء ، ويؤدى بكثير من التلاميذ الى أن يصبحوا مشاكل دراسية وخلقية . أما تعليم المستقبل فانه يشترط فى خططه ومناهجه وطرقه أن تكون مرنة متنوعة ، تتبع استعداد كل تلميذ وشخصيته . فلم يخلق التلاميذ للمناهج، بل المناهج هي التي توضع للتلاميذ ؛ وواجب المربى أن يدرس كل تلميذ على حدة كى يقف على قواه ، ومواهبه ، وميول نفسه وبيئته المنزلية ... الخ ؛ وبذلك يتسنى له أن يختار للتلميذ من وسائل التربية أنجعها وأكثرها ملاءمة لظروفه . والمقاييس العقلية ، وفى مقدمتها مقاييس الذكاء ، من أهم الوسائل التي نستعين بها على فهم عقلية التلميذ
وأما عن النزعة الثانية ، فقد كان البحث في مسائل التربية إلى أواخر القرن الماضي قائما على آراء شخصية ، مبنية على خبرة ومشاهدات ناقصة غير محدودة . فكنت ترى فيلسوفا ينادى بأن العلوم الطبيعية هي أصلح المواد لتثقيف العقل، ويعرز ذلك بحجج كثيرة يؤكدها ويثق بصحتها، وآخر يقول بأن دراسة الآداب والتاريخ لا تعدلها دراسة أخرى من حيث قيمتها لتربية العقل والخلق معا ، و يعزز ذلك بحجج أخرى كثيرة ، يؤكدها ويثق ، هو الآخر ، بصحتها . وكنت ترى حربا طاحنة بين من يقولون بأن تمرين التلميذ على التفكير في قواعد النحو أو في نظريات الهندسة يؤهله للتفكير الصحيح فى سائر نواحى الحياة الفكرية والعملية ، ومن يقولون بأن آثار التمرين لا تتعدى دائرة المواد التى تمرن التلميذ عليها ؛ وكل فريق لديه ذخيرة لا تنفد من الأسباب النظرية والبراهين الفلسفية . وكنت ترى هذا المعلم يفضّل طريقة خاصة في تعليم اللغة أو الحساب أو الخط ، وذاك يفضل عكسها على خط مستقيم ، وكل منهما يجد لرأيه مبررا من خبرته الشخصية ، أو من قاعدة ثانوية من قواعد علم النفس النظري . ولم يكن
من المستطاع حسم الخلاف فى أمثال هذه المناقشات، لأنه لم يكن ثمة ضابط علمي يكون له القول الفصل في ترجيح ناحية على أخرى . لذلك لما أخذ علماء النفس في القرن الماضى يستعملون في أبحاثهم طرق القياس والتجريب المستعملة في العلوم الطبيعية ، لم يكن من الغريب أن تسرى العدوى الى المربين ، فبدءوا يضعون آراءهم ونظرياتهم القديمة ، وأساليبهم المتوارثة عن الأجيال السالفة ، على محك التجريب العلمي ليتبينوا ما فيها من عناصر الصواب والخطأ
ومما زاد في الاهتمام بالطريقة التجريبية أن العصر الذي نعيش فيه عصر انقلاب وتجديد في فلسفة التربية ونظمها ، تضافرت على إنتاجهما عوامل عدة ، أظهرت فساد المثل العليا القديمة ، فقام المفكرون والمصلحون ينادون بأساليب مدرسية مبتكرة ، يرون فيها العلاج الشافي لما في النظم الحالية من مساوئ . وللتحقق من صواب هذه الأساليب الجديدة أو خطئها ، أنشئت المدارس التجريبية لتجربتها والحكم عليها بما يظهر من نتائجها العملية . وقد انتشرت تلك المدارس فى بلاد عدة ، فاشتدت معها الحاجة الى المقاييس العقلية والدراسية المضبوطة ، لأن التجريب العلمي أساسه القياس الدقيق ، الذى يبين حالة التلاميذ عند البدء في التجربة ، وحالتهم عند ختامها