ماهو علم النفس العصبي
تعد الناحية التاريخية لأي علم ذات أهمية كبيرة لأنها تمدنا بالعديد من الجوانب التي تجعلنا أكثر فهما لهذا العلم. وأول هذه الجوانب إحساسنا بالانتماء والتواصل مع ماضي العلم الذي نعمل به، وأن نعرف ونتتبع أثار السابقين فيما حققوه بالنسبة لأي جزئية نتناولها نحن الآن. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل إننا نتعرف على تاريخنا المهني والتطور الذي مر به، مما يساعدنا على تكوين فكرة واضحة عن أنفسنا، فنعرف من نحن وأين نقف في مسار تطور المهنة، وما الذي يمكن أن نقدمه. إن تاريخ العلم ببساطة يمنحنا هويتنا وموقعنا من حركة التاريخ وتطوره.
كذلك يمنحنا تاريخ العلم الفرصة لأن نتعلم من إخفاقات من سبقونا، ومن الفشل في تحقيق بعض الفروض والنظريات لنتجنب هذه الإخفاقات، فنبعد عن مواقف الضعف ونعرف بواطن القوة. كما يمكننا أن نحدد ما نملكه في الحاضر من أدوات و اکتشافات تساعدنا على تحديد اتجاهاتنا وخططنا المستقبلية.
وقبل أن نتناول نشأة وتاريخ علم النفس العصبي نعتقد أنه من المهم أن نعرف ماذا نعنيه بهذا العلم، هل هو علم النفس الإكلينيكي، أم أحد فروعه، أم أحد فروع علم النفس بوجه عام؟. وماذا يطلق على من يعمل بهذا الفرع، هل هو الأخصائي النفسي بشكل عام، أم الأخصائي النفسي الإكلينيكي، أم غير ذلك. سنحاول في هذا الجزء أن نعرف علم النفس العصبي أولا، ثم نعرض لتاريخ نشأته وتطوره، ثم نعرف بعد ذلك الفرد الذي يعمل بهذا الفرع، وما هي متطلباته، وما هي الخدمات التي يقدمها.
التعريف، النشأة والتطور :
قبل أن نستعرض البعد التاريخي لعلم النفس العصبي والمراحل التي مر بها نجد أنه من الضروري بداية أن نعرف ماهية هذا العلم الذي نحن بصدد دراسته. والحقيقة أن هذا العلم يتسم ببساطة تعريفاته، وهي ميزة يتميز بها لأن بساطة التعريف لاتدخل بنا في مشاكل منهجية، أو تخلط علينا الأمور، إذ يصبح من السهل علينا أن نتعامل مع نفس الشيء دون غموض أو لبس.
- علم النفس العصبي - وعلم النفس العصبي Neuropsychology في أبسط تعريفاته هو " ذلك العلم الذي يقوم بدراسة العلاقة بين السلوك والمخ." أو هو " دراسة العلاقة بين وظائف المخ من ناحية والسلوك من ناحية أخرى". وتستمد هذه الدراسة معلوماتها من أكثر من علم كعلم التشريح Anatomy وعلوم الحياة (البيولوجي Biology)، وعلم الأدوية (فارماکولوجي Pharmacology)، وعلم وظائف الأعضاء (الفسيولوجي Physiology). ويعد علم النفس العصبي الإكلينيكي Clinical Neuropsychology أحد المجالات التي يتم فيها تطبيق هذه المعرفة في المواقف الإكلينيكية الخاصة ببعض المشكلات.
وللتفرقة بين علم النفس العصبي وعلم النفس العصبي الإكلينيكي يمكن القول بأن الأول يقوم بدراسة العلاقة بين المخ والسلوك بما في ذلك التقييم والفهم والتعديل. فهو علم يسعى إلى فهم كيفية عمل المخ في إنتاج السلوك والعمليات العقلية والتحكم فيها من خلال الشبكة العصبية، بما في ذلك دراسة الانفعالات والشخصية والتفكير والتعلم والتذكر وحل المشكلات وغير ذلك.
ولا يتوقف الأمر على دراسة السلوك المرضي ولكن يتضمن السلوك السوي أيضا. كما يهتم في اتجاه آخر بدراسة كيفية تأثير السلوك على المخ والعمليات الفسيولوجية المختلفة ذات العلاقة والتي وضحت في بزوغ علم النفس العصبي المناعي psychoneuroimmunology وهو العلم الذي يهتم بدراسة وفهم العلاقة المعقدة بين المخ وجهاز المناعة في الجسم، ومدى تأثير هذه العلاقة على الصحة العامة للفرد.
أما علم النفس العصبي الإكلينيكي فهو الذي يسعى إلى فهم كيفية تأثير الجزء المصاب من المخ على السلوك والعمليات المعرفية. وعلم النفس العصبي الإكلينيكي في جوانبه التطبيقية يسعى إلى فهم طبيعة المصادر البيولوجية التي تكمن وراء الفروق الفردية، ويسعى بشكل خاص إلى تحديد طبيعة الأساس المخي المضطرب الكامن وراء اضطراب الذاكرة والشخصية والعمليات المعرفية والانفعالية بشكل عام. وتحديد وفهم التغيرات الوظيفية العصبية التي تحدث نتيجة إصابات المخ يمكنها أن تحدد في ذات الوقت التوقعات السلوكية المحتملة للمريض بعد ذلك.
كما أنه يهتم بدراسة العلاقة التي تربط بين الاهتمام بالنواحي البيولوجية للخلايا العصبية للمخ والحبل الشوكي والجسم من جهة، والاضطرابات النفسية من جهة أخرى.
ويمكن تحديد مجالات علم النفس العصبي الإكلينيكي في دراسة النواحي التالية:
- كيفية تأثر وتغير المهارات الوظيفية functional skills اليومية (كالذاكرة واللغة والانتباه والقراءة والتخطيط وحل المشكلات .. الخ) باضطراب وظائف المخ نتيجة الإصابة أو المرض.
- كيفية تبادل العلاقة الوظيفية بين نصفي المخ، ومدى تأثر العمليات العقلية الموجودة في النصف السليم بما حدث للنصف المصاب.
- تشخيص حالات إصابات المخ اعتمادا على العديد من الاختبارات النفسية ذات الحساسية لإصابات المخ وأمراضه، بمقارنة أداء المرضى بأداء الأسوياء.
- التعرف على النتائج المترتبة على إصابة المخ ومدى تأثيرها على الأنشطة اليومية، والطريقة التي يمكن من خلالها حدوث التحسن والشفاء، وكيفية التكيف مع الآثار المتبقية من الإصابة أو أي إعاقة تحدث نتيجة الاضطراب الوظيفي الدائم.
وإذا كانت نقطة البداية بالنسبة لنا هي المخ لمعرفة كيف ولماذا يحدث السلوك فيمكن اعتبار علم النفس بمجمله (بوصفه علما يدرس العمليات معرفية والعلاقات بين الشخصية، ومفهوم الذات، والانفعال والتعلم والتذكر، واللغة وغير ذلك من موضوعات علم النفس من هذا المنظور- علم نفسي عصبي. فعلم اللغويات العصبي Neurolinguistics مثلا يدرس كيفية تشكيل اللغة لمفهومنا عن ذواتنا، وكيفية التواصل مع الآخرين. وعلم النفس النمائي العصبي Neurodevelopmental Psychology يدرس كيفية تغير السلوك والعمليات المعرفية بتغير نمو الجهاز العصبي. بل إن المفاهيم النفسية عن الحلم ومحتواه، ومستوى الانتباه والخبرات الشعورية كلها مفاهيم لها عملياتها في المخ.
وفي السنوات الأخيرة تطور علم النفس العصبي تطورا بالغة، ولاقى اهتماما خاصة انعكس في مجالات عديدة منها زيادة الاشتراك في المؤسسات والجمعيات العلمية المهتمة بعلم النفس العصبي، وزيادة عدد البرامج التدريبية التي تقدم موضوعات في هذا العلم، وظهور العديد من الكتب والأبحاث، وخروج العديد من الدوريات المتخصصة في هذا المجال التي نوجز بعضها فيما يلي
- مجلة علم النفس العصبي الإكلينيكي Journal of Clinical Neuropsychology
- مجلة علم النفس الإكلينيكي Clinical Psychology.
- علم النفس العصبي الإكلينيكي Clinical Neuropsychology
- المجلة الدولية للعلوم العصبية International Journal of Neurosciences
- مجلة نيوروسيكولوجيا Neuropsychologia.
- مجلة علم النفس العصبي الإكلينيكي والتجريبي J. of Clinical & Experimental Neuropsychology
- مجلة علم النفس العصبي Neuropsychology
- مجلة المخ (الدماغ) واللغة Brain & Language
وبالإضافة إلى هذا الكم من الدوريات التي تهتم بعلم النفس العصبي ظهرت العديد من المؤسسات المهنية التي تهتم بهذا العلم، ويمكن تلخيصها على النحو التالي:
- الجمعية الدولية لعلم النفس العصبي International Neuropsychology Association، التي ظهرت عام 1977.
- الأكاديمية القومية لأخصائيي علم النفس العصبي National Academy of Neuropsychologists
- الأكاديمية الأمريكية لعلم النفس العصبي الإكلينيكي Academy of Clinical Neuropsychology American
- الهيئة (البورد) الأمريكية لعلم النفس العصبي الإكلينيكي American Board of Clinical Neuropsychology
- الهيئة (البورد) الأمريكية لعلم النفس العصبي المهني American Board of ETIC Professional Neuropsychology
- جمعية علم الأعصاب المعرفي Cognitive Neuroscience Society
- الأكاديمية القومية لعلم النفس العصبي National Academy of Neuropsychology
وحتى أوائل عام 1980 لم يكن علم النفس العصبي أحد التخصصات المحددة، ثم وضعت الجمعية الأمريكية لعلم النفس American Psychological Association تحديدا في القسم الأربعين لها حددت فيه تعریف علم النفس العصبي. ثم عادت في أواخر الثمانينات ووضعت المحددات المطلوبة لمن يحصل على دبلوم علم النفس العصبي الإكلينيكي، أما البداية الحقيقية لهذا العلم فترجع إلى أبعد مما نتصور، حيث تكمن جذوره في الفلسفة اليونانية، إذ كان تحديد موضع الوظائف المخية الشغل الشاغل وبؤرة اهتمام كل من الفلاسفة، وتلاهم بعد ذلك علماء النفس، وعلماء الفسيولوجيا.
ويعد مصطلح علم النفس العصبي مصطلحا حديثة نسبية، وإن كان بروس Bruce يرى أنه ظهر لأول مرة على يد وليام أوسلر
W.Osler، ثم استخدمه هب Hebb في كتابه المعنون "تنظيم السلوك: نظرية نيوروسيكولوجية" عام 1947. وعلى الرغم من أن هب لم يضع تعريفا محددا للمصطلح إلا أنه استخدمه للإشارة إلى الدراسة التي تتضمن اهتمامات كل من علماء الأعصاب Neurologists وعلماء النفس الفسيولوجيين Physiological Psychologists.
وفي عام 1957 أصبح المصطلح محددا كأحد مجالات العلوم العصبية حيث أشار كلوفر Kluver في مقدمة كتابه المعنون "الميكانيزمات السلوكية عند القرود Behavioral Mechanisms in Monkeys " إلى أن كتابه هذا يعد أحد اهتمامات
علماء النفس العصبيين Neuropsychologists. ثم ظهر المصطلح في كتابات الاشلي Lashley في عام 1960 الذي لم يضع له تعريفا محددا أيضا، وإن قدم مفهوم القوة الكامنة المتساوية Equipotentiality والذي يعني أن كل مناطق المخ تشارك بشكل متساو في الوظائف العقلية، ومن ثم فإن تحديد موضع الإصابة هو أمر ثانوي بالنسبة لحجم الإصابة، وأن معظم المهارات تدخل فيها مناطق كثيرة من المخ.
انتهى