الاضطرابات النفسية المهنية
دلت عدة دراسات على أن مرض الفصام ينتشر بنسبة اكبر في الطبقات الاجتماعية المتدنية وبالتالي في مهن خاصة و أعمال ذات مردود مالي منخفض ولا يعني ذلك أن الفقر يسبب الفصام بل إن المرض نفسه يؤدي إلى تدهور الشخصية وقدراتها وطموحها مما يجعل المرضى المصابين يتدهورون في السلم الاجتماعي و المهني.
ومن جهة أخرى يمكن للأزمات الحياتية المتنوعة ومنها الفقر و البطالة و الخسائر المادية أن تساهم في ظهور الفصام عند من يحمل استعدادات عضوية أو كيميائية أو وراثية أو أنها تساهم في انتكاسة المرض أو أزمانه.
وينتشر اضطراب الهوس الاكتئابي الدوري في الطبقات العليا مثل التجار ورجال الأعمال وغيرهم وربما يكون ذلك بسبب ازدياد النشاط والتفاؤل والطموح وروح المغامرة و الثقة بالنفس والسلوك الاجتماعي الواسع والذي يميز بعض مراحل هذا الاضطراب ولا سيما الدرجات الخفيفة منه.
و يرتبط الانتحار بالطبقات الاجتماعية المتدنية بنسب مشابهة للطبقات العليا ويقل في الطبقات الاجتماعية المتوسطة و يتبين ذلك للمهن الموازية لهذه الطبقات.
وفي المهن الطبية يزداد عدم التوافق الزوجي والطلاق وأيضا الاكتئاب. وتبلغ نسبة الانتحار أعلاها في الأطباء اختصاصيي التخدير ثم يليهم أطباء العيون ثم الأطباء النفسيين وفقا لبعض الدراسات, وتتعدد تفسيرات ذلك ومنها أنه ربما يكون النصيب الأقل الذي يحظى به طبيب التخدير مقارنة مع الطبيب الجراح من حيث التقدير والمكافأة بمختلف الأشكال في العمليات الجراحية الناجحة, إضافة لتحمله للعبء الأكبر في العمليات الفاشلة ، له دور في ذلك وفي تفسيرات أخرى أن المواد المستعملة في التحذير ربما تزيد في نسبة الاكتئاب عند ممارسي التخدير.
وفي المهن الأدبية الإبداعية تزداد نسبة الاضطرابات الاكتئابية بشكل واضح مقارنة مع مجموع السكان, وتشمل هذه المهن كتاب الرواية والقصة والمسرح وكتاب النثر والشعراء بينما تتقارب نسبة النوبات الاكتئابية الشديدة لدى العلماء والسياسيين والمؤلفين الموسيقيين والرسامين, من النسب العامة للاكتئاب في المجتمع.
وتتعدد تفسيرات ذلك ومنها طبيعة العمل الإبداعي الأدبي نفسه من حيث الحساسية الخاصة التي يمتلكها الكتاب لأشكال المعاناة المختلفة, وتوحدهم مع شخصيات أعمالهم وأيضا تعرضهم لأنواع الإحباط المختلفة والاستعداد الشخصي وغير ذلك.
ويزداد الاضطراب الهوسي والهوس الخفيف واضطراب المزاجية الدوري لدى العاملين في المهن الصحفية والإعلامية كما تدل عليه الملاحظات.
كما أن المهن اليدوية والتي لا تتطلب مهارات خاصة مثل الرعي والأعمال العضلية المساعدة والأعمال المنزلية وغيرها يزداد فيها الأشخاص ذوو الذكاء المنخفض وأيضا يزداد فيها الفصام والاكتئاب.
وفي عدد من الدراسات على ربات البيوت تبين أن الاكتئاب يزداد لديهن مقارنة مع النساء العاملات في مهن وأعمال أخرى, كما تدل معظم الدراسات الغربية وعدد من الدراسات العربية على أن العمل بشكل عام يساهم في تحسين الصحة النفسية نظرا لايجابيات العمل المتعلقة بالاستقلالية وتحقيق الذات وازدياد السيطرة على الحياة والمستقبل من النواحي الاقتصادية والشخصية.
وتزداد الاضطرابات التحويلية الهستيرية والاضطرابات الجسمية ( الشكاوي الجسمية المتعددة المزمنة نفسية المنشأ ) لدى الأشخاص ذوي الثقافة التعليمية المتدنية وبالتالي في المهن والأعمال الموازية لذلك.
وتزداد الجنسية المثلية ( الشذوذ الجنسي) لدى الرجال الذين يمارسون المهن المرتبطة عادة بميادين عمل المرأة، مثل الخياطة وإعداد الطعام وتزيين الشعر وغير ذلك وأيضا في نزلاء السجون وطلبة المدارس الداخلية من الجنسين كما تدل عليه الملاحظات.
ويزداد الإدمان على الكحول في المهن البحرية التي تتطلب أسفارا طويلة وأيضا لدى موظفي الفنادق وأماكن اللهو حيث يتوفر الكحول باستمرار، إضافة لعدد من المهن الخطرة والعسكرية وغير ذلك، كما يزداد سوء استعمال المنشطات وإدمان المنشطات لدى فئات الطلبة والسائقين وغيرهم.
ويزداد ادعاء المرض والتمارض في المهن العسكرية ولا سيما أثناء الحروب وأيضا في نزلاء السجون كما أن إصابات العمل في عدد من المهن العضلية والحرفية يمكن أن تؤدي إلى اضطراب نفسي، يتميز بشكاوي جسمية ونفسية وآلام ترتبط بالإصابة العضوية الأصلية ولكن لا تتناسب معها في شدتها أو ازمانها ويسما ذلك عصاب التعويض وهو يرتبط بإمكانية الحصول على تعويض مالي بسبب الإصابة الأصلية.
وهناك ما يسمى باضطراب الشدة عقب الصدمة أو الشدة الصدمية وهو يتميز بأعراض القلق والتوتر والأرق وتذكر الفجيعة وغير ذلك, وهو يلي حدوث أحداث فاجعة وأليمة مثل الحوادث والموت المفاجئ والاغتصاب والحروب والكوارث وغيرها، وهذا الاضطراب يمكن أن يصيب فئات من مهن مختلفة بعضها اعتيادية وبعضها من المهن الخطرة والعسكرية وغيرها.
وإذا تحدثنا عن اضطرابات القلق المتنوعة والمخاوف المرضية المتنوعة نجد أنها اضطرابات واسعة الانتشار في مختلف الفئات والمهن, ومن المؤكد أن العصر الحديث وإيقاعه السريع وتغيراته وقيمه ومشكلاته وأيضا مهنه الشائعة بظروفها وشروطها ومتطلباتها الخاصة والاجتماعية, لها دور في ذلك الانتشار. كما أن الاحباطات والصدمات العامة المرتبطة بالمهن المتنوعة له دور في نشوء القلق والمخاوف وفي استمراريتهما وهناك بالطبع مهن مهيأة للقلق أكثر من غيرها.
وتبقى الأمور نسبية وافتراضية تخمينية, ولا يعني ذلك إهمال بحثها ومحاولة تعديل ما يمكن تعديله وإصلاحه
وفي مجموعة أخرى من الاضطرابات النفسية والتي تسمى اضطرابات التكيف والتي تأخذ أشكالا من القلق والاكتئاب والأعراض الجسمية والسلوكية والأشكال المختلطة بينهم نجد أن هذه الاضطرابات هي بالتعريف ناتجة عن سوء التكيف لظروف معينة تتميز بالتوتر والشدة ولكن في حدود متوسطة وليست استثنائية أو نادرة، ومن الناحية العيادية نجد أن مثل هذه الاضطرابات تطلق على الشكاوي التي يبديها الأشخاص في ظروف مهنية صعبة. أو عند البدء في عمل ما أو عند الانتقال إلى ظروف جديدة في مجال العمل أو غيره من العلاقات الزوجية أو الشخصية أو المهنية. ومن المفهوم والواضح أنه كلما زادت صعوبات المهنة وظروفها القاسية كلما زادت هذه الاضطرابات النفسية انتشارا.