الهندسة الاجتماعية

وبدأت المحاولة الجادة لطرح مفهوم الهندسة الاجتماعية باعتبارها نوعاً من التوجه يجسد وينظم ويؤمن صحة مسارات التطبيقات الأخرى للهندسة، فما قيمة الهندسة الميكانيكية إذا اقتصر تعاملها على الآلات والمكائن حصراً دون مراعاتها للجوانب الإنسانية التي تفصح عن طبيعة القيم والعادات والتقاليد والأعراف السائدة لدى الأفراد وعلى نحو تؤمن توجهات جادة تجاه دورة حياتها، وهذا ما يجعلها مبعثاً لإحداث التغير والانفتاح نحو المستقبل بإطار توءمه الاجتماعية وتحدد مداه الأخلاقية عبر حالات الثقة والشفافية، وفي ذلك منحى لتغيير خارطة العلاقات سواء بين الجماعات والمنظمات .

ورد مصطلح الهندسة الاجتماعية بوصفه عملية إحداث التغيير الاجتماعي لذوي الياقات الزرقاء عبر التخطيط المنظم للتقنية الاجتماعية سعياً لتحديد التصميم والتصنيع الاجتماعي المناسب .

وفيما يتعلق بالدلالة الاصطلاحية لهذا المفهوم فقد تباينت آراء الباحثون في ذلك، إذ أكدوا على أن الهندسة الاجتماعية تمثل السلوك الذكي الذي يعتمده المهندس الاجتماعي بقصد تكريس القيم الاجتماعية في إطار الإفادة من ميل الإنسان إلى الثقة والرغبة في المساعدة، وبما يتيح له فرصة الحصول على المعلومات والحقائق.

وعرفها البعض بوصفها ترتيباً وتحدياً للقوى البيئية والاجتماعية بغية إحداث الفعل الاجتماعي المؤثر، وقد أقرنها البعض بالتقنية المتنوعة ذات السمة التعقيدية التي توظف مهارات التواصل لصالح اقتناء المعلومات بقصد تامين الملكية والإقرار بالخصوصية، ووصفت الهندسة الاجتماعية بمجموعة الممارسات الرامية إلى كسب المعلومات ذات السمة الخاصة من الأفراد والجماعات عبر ما يسمى بالمهارات الفنية والتقنية للمهندس الاجتماعي

وإجمالاً فإن كل ذلك يدل على إن الهندسة الاجتماعية أداة نفسية واجتماعية تسهم في توليد المعلومات الحية ، أي إنها تعد أنموذج لمجموعة من النشاطات الاجتماعية الموجه نحو الأفراد بقصد تحقيق أهداف معينة ، مما يشير لإمكانية استثمار المهارات العقلية للإنسان بقصد الإقناع وإحداث التأثير النفسي وكسب الثقة إلى حد التعاون دون إلحاق الضرر أو المساس بالجوانب الأمنية الخاصة بالإنسان .

ومما تقدم يتضح التركيز على الهندسة الاجتماعية بوصفها مجموعة من المحاولات التي تعكس جملة توجهات وبذات الوقت تفصح عن مستوى الاستعدادات التي يتم اعتمادها لكسب المعلومات عبر الإفصاح عنها ، وفي السياق ذاته فقد عدت تركيبا لما هو ممكن ومسموح به في السعي وراء ما مرغوب فيه ، فضلاً عن إنها وسيلة مثالية لتلبية مستوى عال من القدرة على الاستجابة للتغييرات السريعة في النظام الاجتماعي ذات السمة الدينامية، فهي محاولة لتغيير السلوك البشري المسيطر عليه والموجه بواسطة عدد قليل من الممثلين الراغبين بتحقيق أنواع مسبقة من التغييرات في سلوك الآخرين.

وهي بمجموعة من الأساليب الاجتماعية التي تتبع المنهج العلمي لحل المشكلات الاجتماعية من خلال التأثير على الأفراد لتعديل سلوكهم ووجهات نظرهم باتجاه إحداث التغير والتكيف والاستقرار الاجتماعي داخل المنظمة. 

تنبع أهمية الهندسة الاجتماعية من دورها في تخطى تطبيقها حدود العلوم الاجتماعية والنفسية التي ساهمت في ترسيخ قواعدها ورسم ملامحها وإبراز أهم جوانبها المتمثلة بتطوير منظومة من القيم التي تستخدم للكشف عن البيانات والمعلومات المتعلقة بمواقف الأفراد وآرائهم ومعتقداتهم، واستخدامها لتقيم سلوكهم واختيار الوسيلة الأفضل للتأثير عليهم باتجاه إحداث التغيير الذي يفضي إلى جعل المعرفة متكاملة من خلال العمليات الاجتماعية والتعلم الاجتماعي ومشاركة الجهات الفاعلة التي تسهم في توليد ونشر الابتكارات الفنية، الذي يعد إشارة حية إلى ضرورة ترسيخ مجموعة من القواعد المنظمة لطبيعة العلاقات بين المستويات التنظيمية على نحو تتضح من خلاله حالات التأثير بعمقها الحقيقي وتجاوز العقبات التي تلازم الفعاليات الإنسانية على مستوى التنظيم .

الهندسة الاجتماعية تبحث في إيجاد التصميم المناسب والأسلوب الأمثل للتغيير الاجتماعي المستند إلى نظام من القيم المقبولة أخلاقياً، وبما ينسجم مع المواقف والمعتقدات السائدة لضمان تحقيق الأهداف على المدى الطويل عليه باتت الهندسة الاجتماعية ضرورة ملحة باعتبارها السبيل لمعرفة ما يجري في العالم الخارجي من تطورات وبخاصة فيما يخص المجالات المتعلقة بالخبرات الجديدة والكفاءات النادرة ، والعمل على تفعيل العلاقات الاجتماعية التي تشجع التعاون مع الجهات المختلفة بهدف الحصول على المعلومات المفيدة وتوظيفها لصالح بناء المعرفة الجديدة

وبأي حال من الأحوال لا يمكن أن نتوقع تنمية الاكتشافات الجديدة في أي مجال من مجالات العلوم دون البحوث التعاونية المشتركة من خلال اختراق الحدود القائمة بين الدراسات والبحث عن السبل الكفيلة لممارسة وتعميق التعلم ، ويمكن تحقيق ذلك من خلال التفاعل الحي مع كافة الأطراف سواء داخل المنظمة أو خارجها الأمر الذي يولد مساحة واسعة من التفكير واستدامة حقيقية لتنمية الكفاءات لتصبح ركيزة لتنفيذ البرامج والمشروعات ذات البعد المستقبلي . 

وبذلك يكون موضوع الهندسة الاجتماعية قد وظف في مجال بحوث التسويق وبخاصة الاتصالات التسويقية وعلى النحو الذي مكن المنظمات من تحقيق ميزة تنافسية نتيجة للجهد الجمعي الذي توفره الهندسة الاجتماعية عبر الاتصالات الحية، وبما يسهم في فتح منافذ تسويقية جديدة ومن ثم إقرار حصة تسويقية أكبر من خلال تجسيد صورة التلاحم بين الأسواق بمدياتها والزبائن بعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم. 

أهداف الهندسة الاجتماعية

تتنوع أهداف الهندسة الاجتماعية تبعا لامتداداتها وانعكاساتها في الأوساط التنظيمية، مما أطرها في واقع ملموس ينبغي اعتماده والأخذ بمضامينه، انطلاقا من فكرة مفادها أن المنظمات تواجه تحديات لا تتوقف عند الموارد المادية وإنما امتدت إلى الجوانب الاجتماعية أيضاً ، إذ تولدت الحاجة إلى المعلومات الاجتماعية التي تجسد فكرة الهندسة الاجتماعية والمتمثلة بالمحرك لكافة الأنشطة والفعاليات التي يتم الأخذ بها والعمل بمحتواها، وبما يتيح لصناع القرار الإدراك المبكر لكثير من الفرص، وهذا جعلها تحدياً جديدا للمنظمات لكونها تبنت خرائط التزمت الجوانب التقليدية وأهملت المضامين الأساسية للنجاح الحقيقي ،وتمثل برسم الخطط الواعية التي ترمي إلى تعبئة الموارد والجهود المبذولة من قبل الأفراد العاملين وزجها في إطار العمل الجماعي باتجاه تحقيق الأهداف المنشودة ذلك

كل ذلك أطر الهدف الأساسي من الهندسة الاجتماعية وهو بناء هيكل اجتماعي يتسم بالكفاءة والفاعلية وتحقيق التوازن بين المصالح المختلفة التي تؤمن حالة من الرضا الوظيفي، وهذا يفسر العمق الفلسفي للهندسة الاجتماعية والمتجسد في تفعيل الآليات الضرورية للتعاون ضمن بناء هيكلي تسوده روح الديمقراطية الذي يؤمن بحرية الحوار وإطلاق العنان لتبادل الأفكار التي تعني الهندسة التنظيمية المتمثلة بالبوثقة المتضمنة في ثناياها ما يسمى بالهندسة الاجتماعية التي تركز جل اهتمامها على المصادر المعلوماتية ، ويجعل ذلك منها منطلقا للأفكار والإبداعات في إطار الممارسات الاجتماعية التي تدعم حالات الانسجام بين الأفراد ضمن متجهات أخلاقية .

فالهندسة الاجتماعية تركز على الحقوق الأخلاقية للأفراد العاملين دون اعتماد حالات المكر والخديعة واللجوء إلى المناورة بقصد إحداث تغييرات في المواقف والاتجاهات، وهذا يستلزم من المهندس الاجتماعي أن يكون قادرا على امتلاك وتوظيف المعرفة في المجالات الاجتماعية التي ينشدها بهدف اختزال المسافات وتشخيص مواقع التفاعل بين العاملين والإدراك ضمن المنطقة الحميمية، ومضمون ذلك أن المهندس الاجتماعي يتسم بدرجة من العاطفية، إذ يقر التوددية مثلما يثمن مسارات العمل وعلى نحو يتيح له استثمار مخزونه المعرفي بالاتجاهات الاجتماعية التي تقرب النوايا وتكون مبعثا للثقة والتواصل وعلى نحو يجسد الدور الفاعل للهندسة الاجتماعية التي لم تعد حكراً على بناء العلاقات بقدر ما يمتد إسهامها الفعلي إلى تجسير الفجوات، ومن ثم وضع سيناريوهات مستقبلية بقصد إحداث حالات المحاكاة للواقع مع النظر إلى السلوكيات بعين الراصد وعقلية المنقب بهدف تشخيص كل ما هو كامن ضمن الواقع المنظمي . 

وتستحوذ الهندسة الاجتماعية حيز فاعل في المجالات الاقتصادية والتقنية والسياسية، إذ بتبنيها يمكن أن تتجسد الشراكات وتقر التحالفات وتصان العلاقات في ظل توافر توظيفا حيا وواقعيا لمضامين الهندسة الاجتماعية.

ويقترن ما تقدم بالإسهام الفعلي الذي تبديه الهندسة الاجتماعية في ميدان التغلب على المشكلات ومن ثم التنبؤ بحدود التوترات وعلى نحو يجعل منها المصفاة الحقيقية لإقامة العلاقات بعيداً عن فكرة التفكير الفردي، وبالتالي يتجسد مفهوم المصلحة المشتركة في إطار بناء السلوكيات التي من شأنها أن تدفع وتحرك الفعل الجماعي ذات المنحى الأخلاقي القائم على الثقة والشفافية والقيم المشتركة وتلبية حاجات الآخرين .

عليه فالهندسة الاجتماعية لاتعنى بالأمور السطحية ذات السمة الجزئية بقدر اهتمامها في البحث في الذات البشرية ومن ثم النظر نحو الفضاءات الداخلية والخارجية على حد سواء، وهذا يفسر التأثيرات التي تحدثها الهندسة الاجتماعية وتجاوزها للحدود المألوفة وولوجها إلى اللا ملموسيات لامتداداتها في البيئة الخارجية وعلى نحو ينمي صداقات ويديم زخم التواصلات، فالعديد من العلاقات على المستوى الدولي تستند للهندسة الاجتماعية، التي تعد عملية ضرورية للإسهام بأكبر قدر ممكن لتحقيق المصلحة المنظمية القائمة على التكييف الاجتماعي .